تبع يعتنق النصرانية ويدعو قومه إليها
قال ابن إسحاق : وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها ، فتوجه إلى مكة ، وهي طريقه إلى اليمن ، حتى إذا كان بين عسفان ، وأمج ، أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد ، فقالوا له أيها الملك ألا ندلك على بيت مال دائر أغفلته الملوك قبلك ، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة ؟ قال بلى ، قالوا : بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده . وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده . فلما أجمع لما قالوا ، أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك فقالا له ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك . ما نعلم بيتا لله اتخذه في الأرض لنفسه غيره ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا ، قال فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه ؟ قالا : تصنع عنده ما يصنع أهله تطوف به وتعظمه وتكرمه وتحلق رأسك عنده وتذل له حتى تخرج من عنده قال فما يمنعكما أنتما من ذلك ؟ قالا : أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم وإنه لكما أخبرناك ، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يهريقون عنده وهم نجس أهل شرك - أو كما قالا له - فعرف نصحهما وصدق حديثهما فقرب النفر من هذيل ، فقطع أيديهم وأرجلهم ثم مضى حتى قدم مكة ، فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام - فيما يذكرون - ينحر بها للناس ويطعم أهلها ، ويسقيهم العسل وأري في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملاء والوصائل فكان تبع - فيما يزعمون - أول من كسا البيت وأوصى به ولاته من جرهم ، وأمرهم بتطهيره وألا يقربوه دما ، ولا ميتة ولا مئلات وهي المحايض وجعل له بابا ومفتاحا ، وقالت سبيعة بنت الأحب بن زبينة ، بن جذيمة بن عوف بن معاوية بن بكر بن هوازن ، بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان وكانت عند عبد مناف بن كعب ، بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ، بن كنانة لابن لها منه يقال له خالد تعظم عليه حرمة مكة ، وتنهاه عن البغي فيها ، وتذكر تبعا وتذلله لها ، وما صنع بها :
أبني لا تظلم بمكة لاالصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها بني ولا يغرنك الغرور
أبني من يظلم بمكة يلق أطراف الشرور
أبني يضرب وجهه ويلح بخديه السعير
أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور
الله أمنها ، وما بنيت بعرصتها قصور
ولقد غزاها تبع فكسا بنيتها الحبير
وأذل ربي ملكه فيها فأوفى بالنذور
يمشي إليها - حافيا بفنائها - ألفا بعير
يسقيهم العسل المصفى والرحيض من الشعير
والفيل أهلك جيشه يرمون فيها بالصخور
والملك في أقصى البلاد وفي الأعاجم والخزير
فاسمع إذا حدثت ، وافهم كيف عاقبة الأمور
قال ابن هشام : يوقف على قوافيها لا تعرب .
وقوله فكسا البيت الخصف . جمع : خصفة وهي شيء ينسج من الخوص والليف والخصف أيضا : ثياب غلاظ . والخصف لغة في الخزف في كتاب العين . والخصف بضم الخاء وسكون الصاد هو الجوز . ويروى أن تبعا لما كسا البيت المسوح والأنطاع . انتفض البيت فزال ذلك عنه وفعل ذلك حين كساه الخصف فلما كساه الملاء والوصائل قبلها . وممن ذكر هذا الخبر : قاسم في الدلائل . وأما الوصائل فثياب موصلة من ثياب اليمن . واحدتها : وصيلة . وقوله ولا تقربوه بمئلات وهي المحائض . لم يرد النساء الحيض لأن حائضا لا يجمع على محائض وإنما هي جمع محيضة ، وهي خرقة المحيض ويقال للخرقة أيضا : مئلاة وجمعها : المآلي قال الشاعر
كأن مصفحات في ذراه
وأنواحا عليهن المآلي
وهي هنا خرق تمسكهن النواحات بأيديهن فكان المئلات كل خرقة دنسة لحيض كانت أو لغيره وزنها مفعلة من ألوت : إذا قصرت وضيعت ، وجعلها صاحب العين في باب الإلية والألية فلام الفعل عنده ياء على هذا ، والله أعلم ويروى في هذا الموضع مئلاثا بثاء مثلثة ومن قوله حين كسا البيت
وكسونا البيت الذي حرم الله
ملاء معضدا وبرودا
فأقمنا به من الشهر عشرا
وجعلنا لبابه إقليدا
ونحرنا بالشعب ستة ألف
فترى الناس نحوهن ورودا
ثم سرنا عنه نؤم سهيلا
فرفعنا لواءنا معقودا
وقال القتبي ، كانت قصة تبع قبل الإسلام بسبعمائة عام .
وقوله بنت الأحب بالحاء المهملة ابن زبينة بالزاي والباء والنون فعيلة من الزبن والنسب إليه زباني على غير قياس . ولو سمي به رجل لقيل في النسب إليه . زبني على القياس . قال سيبويه : الأحب بالحاء المهملة . يقوله أهل النسب وأبو عبيدة يقوله بالجيم وإنما قالت بنت الأحب هذا الشعر في حرب كانت بين بني السباق بن عبد الدار ، وبين بني علي بن سعد بن تميم حتى تفانوا . ولحقت طائفة من بني السباق بعك . فهم فيهم . قال وهو أول بغي كان في قريش . وقد قيل أول بغي كان في قريش بغي الأقايش وهم بنو أقيش من بني سهم بغى بعضهم على بعض فلما كثر بغيهم على الناس أرسل الله عليهم فأرة تحمل فتيلة فأخرقت الدار التي كانت فيها مساكنهم فلم يبق لهم عقب .
كسوة الكعبة
وقولها : وكسا بنيتها الحبير . تريد الحبرات والرحيض من الشعير أي المنقى والمصفى منه وقال ابن إسحاق في غير هذا الموضع أول من كسا الكعبة الديباج الحجاج وذكر جماعة سواه منهم الدارقطني . فتيلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب . كانت قد أضلت العباس صغيرا ، فنزرت إن وجدته أن تكسو الكعبة الديباج ففعلت ذلك حين وجدته . وكانت من بيت مملكة وسيأتي ذكر نسبها فيما بعد - إن شاء الله .
وقال الزبير النسابة بل أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير .
أصل اليهودية باليمن
ثم خرج منها متوجها إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحبرين حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن .
قال ابن إسحاق : حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله يحدث أن تبعا لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا : لا تدخلها علينا ، وقد فارقت ديننا ، فدعاهم إلى دينه وقال إنه خير من دينكم فقالوا : فحاكمنا إلى النار . قال نعم . قال وكانت باليمن - فيما يزعم أهل اليمن - نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه تأكل الظالم ولا تضر المظلوم فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها ، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار إليهم فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها ، فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها ، فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ، ومن حمل ذلك من رجال حمير ، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما لم تضرهما ، فأصفقت عند ذاك حمير على دينه فمن هنالك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن .
قال ابن إسحاق : وقد حدثني محدث أن الحبرين ومن خرج من حمير ، إنما اتبعوا النار ليردوها ، وقالوا : من ردها فهو أولى بالحق ، فدنا منها رجال من حمير بأوثانهم ليردوها فدنت منهم لتأكلهم فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها ، ودنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان التوراة وتنكص عنهما ، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما . والله أعلم أي ذلك كان .
مصير رئام
قال ابن إسحاق : وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم فقال الحبران لتبع إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخل بيننا وبينه ، قال فشأنكما به فاستخرجا منه - فيما يزعم أهل اليمن - كلبا أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت فبقاياه اليوم - كما ذكر لي - بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه .
رئام
وذكر البيت الذي كان لهم يقال له رئام ، وهو فعال من رئمت الأنثى ولدها ترأمه رئما ورئاما : إذا عطفت عليه ورحمته . فاشتقوا لهذا البيت اسما لموضع الرحمة التي كانوا يلتمسون في عبادته والله أعلم .
وفي رواية يونس عن ابن إسحاق أن رئاما كان فيه شيطان وكانوا يملئون له حياضا من دماء القربان فيخرج فيصيب منها ، ويكلمهم وكانوا يعبدونه فلما جاء الحبران مع تبع نشرا التوراة عنده وجعلا يقرآنها ; فطار ذلك الشيطان حتى وقع في البحر .
ملك حسان بن تبان وقتل عمرو أخيه له
فلما ملك ابنه حسان بن تبان أسعد أبي كرب ، سار بأهل اليمن ، يريد أن يطأ به أرض العرب ، وأرض الأعاجم ، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق - قال ابن هشام : بالبحرين ، فيما ذكر لي بعض أهل العلم - كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم فكلموا أخا له يقال له عمرو ، وكان معه في جيشه فقالوا له اقتل أخاك حسان ونملك علينا ، وترجع بنا إلى بلادنا ، فأجابهم فاجتمعت على ذلك إلا ذا رعين الحميري ، فإنه نهاه عن ذلك فلم يقبل منه . فقال ذو رعين
ألا من يشتري سهرا بنوم
سعيد من يبيت قرير عين
فإما حمير غدرت وخانت
فمعذرة الإله لذي رعين
ثم كتبهما في رقعة وختم عليها ، ثم أتى بهما عمرا ، فقال له ضع لي هذا الكتاب عندك ، ففعل ثم قتل عمرو أخاه حسان ورجع بمن معه إلى اليمن . فقال رجل من حمير
لاه عينا الذي رأى مثل حسان
قتيلا في سالف الأحقاب
قتلته مقاول خشية الحبس
غداة قالوا : لباب لباب
ميتكم خيرنا وحيكم رب
علينا ، وكلكم أربابي
قال ابن إسحاق : وقوله لباب لباب لا بأس لا بأس بلغة حمير . قال ابن هشام : ويروى : لباب لباب .
هلاك عمرو
قال ابن إسحاق : فلما نزل عمرو بن تبان اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به فقال له قائل منهم إنه ما قتل رجل قط أخاه أو ذا رحمه بغيا على مثل ما قتلت أخاك عليه إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن ، حتى خلص إلى ذي رعين ، فقال له ذو رعين : إن لي عندك براءة فقال وما هي ؟ قال الكتاب الذي دفعت إليك ، فأخرجه فإذا البيتان فتركه ورأى أنه قد نصحه .
وهلك عمرو ، فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا .
لغة ونحو وقوله في حديث عمرو أخي حسان وهو الذي كان يقال له موثبان وقد تقدم لم لقب بذلك . وقول ذي رعين له في البيتين
ألا من يشتري سهرا بنوم
سعيد من يبيت قرير عين
معناه أمن يشتري ، وحسن حذف ألف الاستفهام هاهنا لتقدم همزة ألا . كما حسن في قول امرئ القيس أحار ترى برقا أريك وميضه . أراد أترى وفي البيت حذف تقديره بل من يبيت قرير عين هو السعيد . فحذف الخبر لدلالة أول الكلام عليه . وفي كتاب ابن دريد سعيد أم يبيت بحذف من وهذا من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لأن من هاهنا نكرة موصوفة ومثله قول الراجز
لو قلت ما في قومها لم تأثم
يفضلها في حسب وميسم
أي من يفضلها ، وهذا ، إنما يوجد في الكلام إذا كان الفعل مضارعا لا ماضيا ، قاله ابن السراج وغيره .
وذو رعين تصغير رعن والرعن أنف الجبل ورعين جبل باليمن قاله صاحب العين وإليه ينسب ذو رعين .
وقوله في الأبيات بعد هذا : لاه من رأى مثل حسان أراد لله وحذف لام الجر واللام الأخرى مع ألف الوصل وهذا حذف كثير . ولكنه جاز في هذا الاسم خاصة لكثرة دوره على الألسنة . مثل قول الفراء لهنك من برق علي كريم . أراد والله إنك . وقال بعضهم أراد لأنك وأبدل الهمزة هاء . وهذا بعيد لأن اللام لا تجمع مع إن إلا أن تؤخر اللام إلى الخبر ، لأنهما حرفان مؤكدان وليس انقلاب الهمزة هاء بمزيل العلة المانعة من اجتماعهما . زائدة في المتن
المقاول
وقوله قتلته المقاول يريد الأقيال وهم الذين دون التبابعة واحدهم قيل مثل سيد ثم خفف واستعمل بالياء في إفراده وجمعه وإن كان أصله الواو لأن معناه الذي يقول ويسمع قوله ولكنهم كرهوا أن يقولوا : أقوال فيلتبس بجمع قول كما قالوا : عيد وأعياد وإن كان من عاد يعود لكن أماتوا الواو فيه إماتة كي لا يشبه جمع العود وإذا أرادوا إحياء الواو في جمع قيل قالوا : مقاول كأنه جمع مقول أو جمع : مقال ومقالة فلم يبعدوا من معنى القول وأمنوا اللبس وقد قالوا : محاسن ومذاكر لا واحد لها من لفظها ، وكأنهم ذهبوا أيضا في مقاول مذهب المرازب وهم ملوك العجم ، والله أعلم .
على أنهم قالوا : أقيال وأقوال ولم يقولوا في جمع عيد إلا أعياد ، ومثل عيد وأعياد . ريح وأرياح في لغة بني أسد وقد صرفوا من القيل فعلا ، وقالوا : قال علينا فلان أي ملك والقيالة الإمارة ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في تسبيحه الذي رواه الترمذي سبحان الذي لبس العز وقال به أي ملك به وقهر . كذا فسره الهروي في الغريبين .
_________________