ابن الثامر يدعو إلى الإسلام
فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني ، وادعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول نعم فيوحد الله ويسلم ويدعو له فيشفى ، حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران ، فدعاه فقال له أفسدت علي أهل قريتي ، وخالفت ديني ودين آبائي ، لأمثلن بك ، قال لا تقدر على ذلك . قال فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك فيلقى فيها ، فيخرج ليس به بأس فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر : إنك والله لن تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك إن فعلت ذلك سلطت علي فقتلتني . قال فوحد الله تعالى ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله ثم هلك الملك مكانه واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر - وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم من الإنجيل وحكمه - ثم أصابهم مثل ما أصاب أهل دينهم من الأحداث فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران والله أعلم بذلك .
قال ابن إسحاق : فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر ، والله أعلم أي ذلك كان .
أصحاب الأخدود ومعناه
فسار إليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك والقتل فاختاروا القتل فخد لهم الأخدود ، فحرق من حرق بالنار وقتل من قتل بالسيف ومثل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا ، ففي ذي نواس وجنده تلك أنزل الله تعالى على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد [ البروج ] .
قال ابن هشام : الأخدود : الحفر المستطيل في الأرض كالخندق والجدول ونحوه وجمعه أخاديد . قال ذو الرمة - واسمه غيلان بن عقبة أحد بني عدي بن عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر .
من العراقية اللاتي يحيل لها
بين الغلاة وبين النخل أخدود
يعني : جدولا . وهذا البيت في قصيدة له . قال ويقال لأثر السيف والسكين في الجلد وأثر السوط ونحوه أخدود وجمعه أخاديد .
مصير عبد الله بن الثامر
قال ابن إسحاق : ويقال كان فيمن قتل ذو نواس ، عبد الله بن الثامر رأسهم وإمامهم .
قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته فوجدوا عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا ، واضعا يده على ضربة في رأسه ممسكا عليها بيده فإذا أخرت يده عنها تنبعث دما ، وإذا أرسلت يده ردها عليها ، فأمسكت دمها ، وفي يده خاتم مكتوب فيه " ربي الله " فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبر بأمره فكتب إليهم عمر رضي الله عنه أن أقروه على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه ففعلوا
أصحاب الأخدود
وحديث عبد الله بن الثامر إنما رواه ابن إسحاق موقوفا على محمد بن كعب القرظي عن بعض أهل نجران ، ليصل به حديث فيمؤن وهو حديث ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريق ابن أبي ليلى عن صهيب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أولى أن يعتمد عليه وهو يخالف حديث ابن إسحاق في ألفاظ كثيرة .
قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حدث بهذا الحديث يعني حديثا تقدم قبل هذا الحديث يحدث بهذا الحديث الآخر . قال كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال الكاهن انظروا لي غلاما فهما أو قال فطنا لقنا ; فأعلمه علمي هذا ، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه قال فنظروا له غلاما على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه فجعل يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعة قال معمر أحسب أن أصحاب الصوامع يومئذ كانوا مسلمين . قال فجعل الغلام يسأل الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال إنما أعبد الله قال فجعل الغلام يمكث عند الراهب ويبطئ على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني ، فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب إذا قال لك الكاهن أين كنت ، فقل كنت عند أهلي ، فإذا قال لك أهلك : أين كنت ؟ فأخبرهم أنك كنت عند الكاهن قال فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة فقال بعضهم إن تلك الدابة كانت أسدا ، فأخذ الغلام حجرا ، فقال اللهم إن كان ما يقول الراهب حقا فأسألك أن تقتله قال ثم رمى ، فقتل الدابة فقال الناس من قتلها ؟ فقالوا : الغلام ففزع الناس وقالوا : لقد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد . قال فسمع به أعمى ، فقال له إن أنت رددت بصري فلك كذا وكذا ، فقال له لا أريد منك هذا ، ولكن أرأيت إن رجع إليك بصرك أتؤمن بالذي رده ؟ قال نعم . قال فدعا الله فرد عليه بصره فآمن الأعمى ، فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب وبالرجل الذي كان أعمى ، فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله ثم قتل الآخر بقتلة أخرى ، ثم أمر بالغلام فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا ، فألقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون منه حتى لم يبق منهم إلا الغلام قال ثم رجع فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقونه فيه فانطلق به إلى البحر فغرق الله الذين كانوا معه وأنجاه فقال الغلام للملك إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني ، وتقول إذا رميتني : " باسم الله رب هذا الغلام " . قال فأمر به فصلب ثم رماه فقال باسم الله رب هذا الغلام فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات فقال الناس لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد ، فإنا نؤمن برب هذا الغلام قال فقيل للملك أجزعت أن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك ، قال فخد أخدودا ، ثم ألقى فيه الحطب والنار ثم جمع الناس فقال من رجع عن ذنبه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار فجعل يلقيهم في ذلك الأخدود .
قال يقول الله سبحانه - قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود حتى بلغ العزيز الحميد [ البروج ] . قال فأما الغلام فإنه دفن .
قال فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل . رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق عن معمر ورواه مسلم عن هداب بن خالد عن حماد بن سلمة ، ثم اتفقا عن ثابت عن ابن أبي ليلى عن صهيب غير أن في حديث مسلم أن الأعمى الذي شفي كان جليسا للملك وأنه جاءه بعد ما شفي فجلس من الملك كما كان يجلس فقال من رد عليك بصرك ، قال ربي ، قال وهل لك رب غيري ؟ فقال الله ربي وربك ، فأمر بالمنشار فجعل على رأسه حتى وقع شقاه وأمر بالراهب ففعل به مثل ذلك وزاد مسلم في آخر الحديث . قال فأتي بامرأة لتلقى في النار ومعها صبي يرضع فقال لها الغلام يا أمه لا تجزعي ، فإنك على الحق وذكر ابن قتيبة أن الغلام الرضيع كان من سبعة أشهر .
أمر دوس ذي ثعلبان وابتداء ملك الحبشة
وذكر أرياط المستولي على اليمن
دوس يستنصر بقيصر
قال ابن إسحاق : وأفلت منهم رجل من سبأ ، يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس له فسلك الرمل فأعجزهم فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر ملك الروم ، فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما بلغ منهم فقال له بعدت بلادك منا ، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين وهو أقرب إلى بلادك ، وكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره .
هزيمة ذي نواس وانتحاره
فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة ، وأمر عليهم رجلا منهم يقال له أرياط - ومعه في جنده أبرهة الأشرم - فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ، ومعه دوس ذو ثعلبان وسار إليه ذو نواس في حمير ، ومن أطاعه من قبائل اليمن ، فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه في البحر ثم ضربه فدخل به فخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى به إلى غمره فأدخله فيه وكان آخر العهد به . ودخل أرياط اليمن ، فملكها .
حديث الحبشة
وذكر فيه دوسا ذا ثعلبان الذي أتى قيصر . ودوس : هو ابن تبع الذي قتله أخوه قاله ابن إسحاق في غير رواية ابن هشام .
وذكر فيه قيصر وكتابه للنجاشي . وقيصر اسم علم لكل من ولي الروم وتفسيره بلسانهم البقير الذي بقر بطن أمه عنه وكان أول من تسمى به بقيرا ، فلما ملك وعرف به تسمى به كل من ملك بعده . قاله المسعودي . وإنما كتب بذلك إلى النجاشي ، لأنه على دينه وكان أقرب إلى اليمن منه وذكر غير ابن إسحاق أن ذا نواس أدخل الحبشة صنعاء اليمن ، حين رأى أن لا قبل له بهم بعد أن استنفر جميع المقاول ليكونوا معه يدا واحدة عليهم فأبوا إلا أن يحمى كل واحد منهم حوزته على حدته فخرج إليهم ومعه مفاتيح خزائنه وأمواله على أن يسالموه ومن معه ولا يقتلوا أحدا فكتبوا إلى النجاشي بذلك فأمرهم أن يقبلوا ذلك منهم فدخلوا صنعاء ودفع إليهم المفاتيح وأمرهم أن يقبضوا ما في بلاده من خزائن أمواله ثم كتب هو إلى كل موضع من أرضه أن اقتلوا كل ثور أسود فقتل أكثر الحبشة ، فلما بلغ ذلك النجاشي وجه جيشا إلى أبرهة وعليهم أرياط وأمره أن يقتل ذا نواس ويخرب ثلث بلاده ويقتل ثلث الرجال ويسبي ثلث النساء والذرية ففعل ذلك أبرهة .
وأبرهة بالحبشة هو الأبيض الوجه وفي هذا قوة لقول من قال إن أبرهة هذا هو أبرهة بن الصباح الحميري وليس بأبي يكسوم الحبشي وإن الحبشة كانوا قد أمروا أبرهة بن الصباح على اليمن ، وهذا القول ذكره ابن سلام في تفسيره واقتحم ذو نواس البحر فهلك وقام بأمره من بعده ذو جدن ، واسمه علس بن الحارث أخو سبيع بن الحارث ، والجدن حسن الصوت يقال إنه أول من أظهر الغناء باليمن فسمي به وجدن أيضا : مفازة باليمن زعم البكري أن ذا جدن إليها ينسب فحارب الحبشة بعد ذي نواس فكسروا جنده وغلبوه على أمره ففر إلى البحر كما فعل ذو نواس ، فهلك فيه وذكروا سبب منازعة أبرهة لأرياط وأن ذلك إنما كان لأن أبرهة بلغ النجاشي أنه استبد بنفسه ولم يرسل إليه من جباية اليمن شيئا ، فوجه أرياطا إلى خلعه فعند ذلك دعاه أبرهة إلى المبارزة - كما ذكر ابن إسحاق -
وذكر الطبري أن عتودة الغلام الذي قتل أرياطا . والعتودة الشدة وقد قيل في اسمه أريجدة . قال له أبرهة احتكم علي قال أحتكم أن لا تزف امرأة إلى بعلها ، حتى أكون أنا الذي أبدأ بها قبله ففعل ذلك أبرهة وغبر العبد زمانا يفعل ذلك فلما اشتد الغيظ بأهل اليمن ، قتلوا عتودة غيلة فقال لهم الملك قد أنى لكم يأهل اليمن أن تفعلوا فعل الأحرار وأن تغضبوا لحرمكم ولو علمت أن هذا العبد يسألني هذا الذي سأل ما حكمته ، ولكن والله لا يؤخذ منكم فيه دية ولا تطلبون بذخل وحيثما وقع اسم أرياط في رواية يونس لم يسمه بهذا الاسم إنما سماه روزنة أو نحو هذا .
وذكر الطبري أن سيف بن ذي يزن لما فعل ذو نواس بالحبشة ما فعل ثم ظفروا به بعث عظيمهم " إلى أبي مرة سيف بن ذي يزن ، فانتزع منه ريحانة بنت علقمة بن مالك وكانت قد ولدت له معدي كرب . فملكها أبرهة . وأولدها مسروق بن أبرهة وعند ذلك توجه سيف إلى كسرى أنوشروان يطلب منه الغوث على الحبشة ، فوعده بذلك وأقام عنده سنين ثم مات وخلفه ابنه معدي كرب في طلب الثأر فأدخل على كسرى ، فقال له من أنت ؟ فقال رجل يطلب إرث أبيه وهو وعد الملك الذي وعد به فسأل عنه كسرى : أهو من بيت مملكة أم لا ؟ فأخبر أنه من بيت ملك فوجه معه وهرز الفارس في سبعة آلاف وخمسمائة من الفرس ، وقال ابن إسحاق : في ثمانمائة غرق منهم مائتان وسلم ستمائة والقول الأول قول ابن قتيبة وهو أشبه بالصواب إذ يبعد مقاومة الحبشة بستمائة وإن كان قد جمع إليهم من العرب - كما ذكر ابن إسحاق - ما جمع . ثم إن معد يكرب بن سيف لما قتل الحبشة وملك هو ووهرز اليمن أقام في ذلك نحو أربع سنين . ثم قتلته عبيد له كان قد اتخذهم من أولئك الحبشة ، خرج بهم إلى الصيد فزرقوه بحرابهم ثم هربوا فأتبعوا فقتلوا . وتفرق أمر اليمن بعده إلى مخالف عليها مقاول كملوك الطوائف لا يدين بعضهم لبعض إلا ما كان من صنعاء ، وكون الأبناء فيها ، حتى جاء الإسلام .
فصل
واستشهد ابن هشام في هذا الخبر على الأخدود ببيت ذي الرمة وهو غيلان بن عقبة بن بهيش بضم الباء والشين وسمي ذا الرمة ببيت قاله في الوتد أشعث باقي رمة التقليد . وقيل إن مية سمته بذلك وكان قد قال لها : اصلحي لي هذا الدلو فقالت له إني خرقاء فولى وهي على عنقه برمتها ، فنادته يا ذا الرمة إن كنت خرقاء فإن لي أمة صناعا ; فلذلك سماها بخرقاء كما سمته بذي الرمة .
فصل
وقوله فخاض ضحضاح البحر إلى غمره . الضحضاح من الماء الذي يظهر معه القعر وكان أصله من الضح وهو حر الشمس كأن الشمس تداخله لقلته فقلبت فيه إحدى الحاءين ضادا ، كما قالوا في ثرة ثرثارة وفي تملل تململ وهو قول الكوفيين من النحويين ولست أعرف أصلا يدفعه ولا دليلا يرده ويقال له أيضا : الرقراق والضهل وقد يستعار في غير الماء كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمه أبي طالب حين سئل عنه فقال هو في ضحضاح من النار ولولا مكاني لكان في الطمطام وفي البخاري : وجدته في غمرة من النار فأخرجته إلى الضحضاح والغمر هو الطمطام
_________________