قالت لي نفسي: لماذا لا تكتب عن رمضان كما يفعل غيرك ممن يجهز مقالاته عن المناسبات العامة، فإذا أتت لم يجاهد نفسه ينتزع شعورها، ولم يكلف عقله يستمطر جوده، ولم يجهد قلمه يستوكف حبره، ومن ثم فأنت في جهاد وهّاج مضيء يشع في كلماتك، ويبتسم في سطورك، ويرفّ في بستانك !
فقلت لها: أيتها الماكرة، تلبسين لباس الناصح المشفق، وما بك إلاّ حب الظهور والتفاخر بين الخلق ليُقال كتب صاحبها عن رمضان كلمة هي رمضان آخر في سنة المقالات، صدقاً في العاطفة، وجمالاً في الأسلوب، ونقاوة في التفكير، وحداثة في التصوير في إطار من الإيمان تغرّد فيه عصافير الجنة!
لست من هذا في شيء، وهبيني كنت على ما تريدين من حضور البديهة، وسرعة الخاطر، ورشاقة الكلمات، وفيض المعاني، وثجم الطمع؛ فأين أجد مادة الكلام المناسب لهذا الشهر الكريم؟ لقد قرأت جل ما كتب الأدباء في هذا الفن، وتقلبت في رياض حروفهم الزاهرة، وتنعمت بثمار أفكارهم الناضجة، فكادت نفسي أن تشرد من حجازها، وتغيب في عالم الأرواح الساحر، لولا بقية مما ترك آل سلمان في فؤاده!
وعندما تركت هذا كله، وأطبقت الكتب على أحبابها اصطدمت بتيار الواقع الحار، فصوّح نبت نفسي، واحترقت أزهار أفكاري، وماتت بدائع أحاسيسي، ولم يبقَ لي غيرُ اليباب أذرعُه بحثاً عن طيف استروح في ظلاله برد الأمس الدابر، وأبحث في ثرى تداعياته عن بلال الجوى المائر، فلم أحصل إلاّ على ما حصل عليه الذي يمد يديه إلى السراب ليبلغ فاه!
عالمنا الذي نعيشه قد أصبح على قلت إلا ما وقى الله ، وبلغ من المرارة مبلغاً تنطفئ معه كل الأنوار القدسية ، وتذوب في وقدته كل المعاني الرقيقة، وتفنى في شاطئه الناري كل الروحانيات اللطيفة؛ لأنه عالم بُني على الغش والخداع، وحب النفس وتصارع المصالح الدنيوية الرخيصة في لجب من ضجيج الحياة لا يبلغك من ورائه نغم شارد يعلل الأنفس المترقبة، ويروح عن القلوب المكتوية، فأنى لي أن أجد منفسا تبدع فيه نفسي آراء لا تشتتها المطامع الخسيسة، وأفكاراً لا تدنسها العقول المستحلة، وأقوالاً لا تطولها الأيدي الآثمة!
لا يا سلمان، بل ما زال رمضان يطل علينا بين الفينة والأخرى ليعلمنا أن في الحياة فرصة أخرى نثب فيها من رقدتنا، ونصحح فيها أخطاءنا، ونتعلم بها دروسنا، تجتمع فيه الأمة على مائدة القلب، فتفيض المسرة والبهجة على الطرقات، وتملأ المحبة والرحمة البيوت، وتسفر المعاني العظيمة عن النفوس الكبيرة، فتشتد آصرة الأخوة، وتقوى رابطة الإيمان، وتستحكم شابكة الرحم .
يأتي الوافد الكريم إلينا ليسلمنا مفاتح الأمل، والأمل نوع من المسؤولية الأخلاقية ؛ لأن من يأمل : يحمل في نفسه إرادة الإصلاح، وروح التغيير، وحب الخلاص مما يعانيه في حياته، ويلاقيه في عيشه، وإنما هي وثبة تنتظر أسبابها، فإذا لاحت له بأنوارها، ووجد المسعف حطم أغلاله، وعط ثوب الليل الجاثم على حياته ليقبل هامة الفجر الصادق..!
ويأتي إلينا الوافد الكريم ليعلمنا كيف نصنع الحياة، ونحقق المستحيل، ويحوّل أحلامنا إلى برنامج عملي من خلال ضبط نفوسنا حفاظاً على صيامنا من شهوة الأكل والشرب، ورعاية له من ساقط الأقوال، وفاسد الأعمال، وخبيث الاعتقاد، فإذا أحكمنا ذلك في ساعات النهار نشأت لنا إرادة أخرى نضبط بها ساعات الليل ؛ من روغان العين، وكلب النفس، وجماح القلب، لنعيش يومنا الحافل في بحبوحة الصبر، وجنة الحلم، وظلال القوة، فلا ينتهي رمضان إلاّ وقد طهرت أجسامنا من فضول الطعام، وخلصت أنفسنا من شوائب الأرض، وانعتقت عقولنا من ربقة الهوى، وبذلك نحقق أعظم صفة تحقق المجد، ألا وهي الانضباط التام، وهي التي حاولت كل كتب العصر اليوم أن تقربها من الناس فلم يزدادوا منها إلاّ بعداً..!
ويأتي الوافد الكريم إلينا كل سنة لينشر أمام أعيننا لافتات السلام مع النفس، والوئام مع الناس، والحب مع البشر حتى تكاد تحس أن حجارة الطريق تتقافز أمام قدميك لتقبلهما جزاء ما غبرت في ساعة نهار لاهبة تذهب بها إلى مسجد أو عمل أو علم أو معروف..!
ويأتي الوافد الكريم ليفتح أبواب قلوبنا الموصدة على مصراعيها لتهب عليها النفحات القدسية من كل مكان تقلب أراضيها، وتنكش ترابها، وترمي بذور الصلاح فيها، حتى إذا ولّى الوافد الكريم في طريقه الأبدي أخذت هذه القلوب بين الفينة والأخرى في لحظات ساكنة تتحرك بأجنتها الطيبة تبحث عن منفذ تنفجر من خلاله لتصنع شجرة الخير، أسها ثابت وفرعها في السماء!
ويأتي هذا الوافد الكريم ليزعزع آراءنا القائمة على الحظوظ بسحر بيانه، ويسترق قلوبنا النافرة من الحق بجلال نفحاته، ويملك فلتات عقولنا المجنونة بوديع خطابه، فإذا نحن أناس غير ما كنا نعهد من حالنا القديمة يوم كنا بليدين لحرمان العواطف، وخشنين لفقدان الشعور، لا ترى منا غير حركات عنيفة وأصوات ناشزة، ومناقشات ممجوجة، وأخلاق فاجرة، وكلمات مندية..!
ويأتي الوافد الكريم يصافح الأيدي المتشنجة بخلاً، فإذا هي كريمة سخية تنفح الفقراء، وتعطي السائلين، وتجود على المتضررين، ويمسح على العيون المتحجرة فتفيض بدموعها، متلألئة على أهدابها وأطراف أخاديدها، قد أذابت أوضار النفس، ونقتها من أكدارها، وحملتها في جرجرة موجة من موجاتها الضخام إلى خارجها، وينفث على القلوب فتزول همومها، وتتكسر أغلالها، وتبرز مفاتنها، وتبدي تسامحها، وتقبلها لمن يأتيها مسلماً ناشراً راية الحب ورفرف السلام..!
ويأتي الوافد الكريم ليقول للأمة كلها إن دينها دين العزة التي لا تذل، والكرامة التي لا تُهان، صان الله به العقل من ردغ الأوهام، وحفظ به النفس من سمادير الهوى، وساوى به الأفراد على اختلاف ألسنتهم وألوانهم من غير نظر إلى نسب أو جاه، وأدب به الفقر وشرته، فليس في رمضان امتياز لبطن على بطن، ولا فم على فم، بل يستوي الناس في ساعات ليس فيها إلاّ وحي الروح، وعمل النفس، وتجلّيات العقل، ونوافح الإيمان، وسكينة القرآن.
ويأتي الكريم الوافد لينشد في آذاننا:
يا رفيقَ الدربِ خذْها حكمةً.... من فمِ الدهرِ وضعْها في ضميركْ
آفةُ النعمةِ أن ترفسَهــا .... مُدّ رجليْك على قدرِ حصـيركْ
دعةُ العيشِ سرابٌ كاذبٌ .... فاتعظْ و احسبْ حسـاباً لمصيركْ
كم غنيٍّ كنتُ ترجو رفدَهُ.... صار يرضى بقليلٍ مـن كثيـركْ
إنما الدنيا سعيرٌ ونـدى .... فتزوّدْ مـن نداهـا لسعيــركْ