كانوا يلقبون جدتها بالساكتة، جدتها لأمها، تتذكر أحاديثا وعتها عندما كانت طفلة ممتلئة، مدللة، ثرثارة وذكية، تنطبع الأحاديث في ذهنها صورا وتعابير، لازال الكثير منها يطل بين الفينة والاخرى برأسها، وخاصة عندما تومض شرارة التداعي، فتجرها الصور عكسيا وصولا الى تلك الايام البعيدة في طفولتها السعيدة .
تستدعي ملامح جدتها الساكتة الجميلة، بشرة بيضاء نقية، بتجاعيد وقورة وشعر أبيض مشوب بالسواد، لا زال غزيرا وطويلا، تستلقي ضفائره على صدرها الناشف. أسنانها تملأ فمها، بيضاء مصفوفة بتهذيب مدهش رغم سنينها الثمانين.
تجلس الصغيرة بجانبها، تسرق عكازتها، تشد الشاش الابيض مطرز الحواف الذي يغطي شعرها، تنهرها الجدة –الساكتة – فلا تنتهر الصغيرة المشاكسة. تسألها كم عمرك يا ستي ؟؟ تقول ستها بتأفف و نزق: "مية، مية سنة"، وتكمل، "اذهبي لامك تريدك". ترد الصغيرة متذاكية، "وكيف عرفت أنها تريدني؟"، تستغفر الجدة الله العظيم و تقول لها " أنا أريدها، اذهبي ونادها لي". "هأ" تقول الصغيرة رافضة، ثم تخطف العكازثانية وتبتعد عن جدتها بحيث لا تستطيع الامساك بها وهي جالسة لا تقوى على الوقوف الا بمساعدة. تغضب الجدة وتزعق "زينب، تعالي خذي هذه الغضيبة عني، زهقت روحي، أرسليها لأمها ولا تفتحي لها الباب ثانية".
تأتي الخالة زينب الأرملة التي ترعى طفليها وأمها –الساكتة-. تنهرها زينب وهي تمسك الضحك محاولة مداراته عنها و قد بدت كما الفأر في المصيدة بين جدتها – الساكتة – وخالتها الأرملة. تمسك الصغيرة بالعكازة مستشعرة بأنها ستكون العصا التي ستذيقها ضربتين على قفاها قبل ان تولي هاربة. استكانت هنيهة، تلفتت حواليها، وضعت خطة الهرب الأسلم، ثم شرعت في الجري بعد أن قذفت العكازة باتجاه الخالة زينب ومرقت كالسهم من أمام الجدة – الساكتة- صوب الباب الذي صفقته وراءها بشدة.
جرت باتجاه دارهم التي تبعد دقيقتين مشي عن دار الجدة دون أن تلتفت خلفها. رفست باب بيتهم بيديها وأرجلها، غطست في حضن أمها الجالسة على حافة المصطبة تحت –عريشة عنب – تلقط اوراق ملوخية خضراء عن عيدانها اللدنة، "هل أحدا وراءك؟" سألتها أمها متلهفة اجابة تطمئنها. "لأ" قالت الصغيرة و خبطت الأرض بقدميها. "ما بك اذن؟". انفجرت الصغيرة ببكاء قائلة " أمك الساكتة تكلمت، ونادت أختك زينب لتطردني، وصرخت بي وتقولوا عنها ساكتة ؟".
ضحكت أمها حتى تهزهز كرشها الكبير، وقالت لصغيرتها "لو تعرفي لماذا اسموها بالساكتة؟" بفضول تسأل الصغيرة "لماذا يا أمي؟، لماذا وهي تتكلم وتصرخ أيضاً؟".
" الليلة سأحكي لك أنت واخوتك لماذا أسموا جدتكم بالساكتة، هذا ان لم يأتنا ضيوف كالعادة"، ثم أردفت الأم التي بدا للصغيرة أن كرشها أكبر بكثير مما يبدو و هي جالسة، بعد أن دفعتها من حضنها برفق ووقفت تنفض ثوبها من بقايا الرمل العالق بجذور الملوخية التي تكومت في الغربال تنتظر ما سيأتي.
قبضت الصغيرة بيديها كومة من الملوخية وبدأت تأكلها وهي تشترط على أمها أنها ستسمعهم الليلة حكاية الجدة الساكتة ان جاءهم ضيوف أم لا .. ثم أدارت ظهرها لأمها ومشت.