حديث الثقافة.....
الحديث حول الثقافة والمثقفين، حديث جميل وصعب في آن واحد، جميل لأنه مرآة الحياة إلى الحقائق وجواهر الأشياء، وصعب لأن وظيفة الثقافة الحقة تقوم عليها حضارات وتتجذر بها عادات وممارسات تحكم سلوكيات الأمم وتحدد مصيرها بين سائر الأمم الأخرى.
ومن هنا سنحاول أن نقف عند هذه المفارقة الصعبة، لنقرأ بعضاً من معالمها وواقعها الذي نلمسه كل حين بل وفي كل لحظة من واقعنا المعاش، وما نشاهده من تفاعلات قائمة بين المثقف والمحيط من مجتمع وسلطة ونظام، والمواقف التي يتخذها او يفرض عليه اتخاذها تجاه أوضاع كل واحدة منها على حدة، باعتبارها المحاور الاساسية لتفاعل الثقافة مع معطيات الحياة بكل تفاصيلها واحداًثها.
فالثقافة الحقة هي التي تبقى وتظل مخالفة للواقع السيء والمتخلف، بل وتسعى لتغييره واصلاحه نحو واقع آخر أفضل تسود فيه القيم والمناقب السامية.
هناك نوعان رئيسيان من الثقافة:
أولاً: الثقافة السياسية أو التي تهتم بأمور الناس وقضاياهم المصيرية، وبالذات فيما يرتبط بالحريات، كحرية الرأي والتصويت أو كحرية ممارسة الطقوس المذهبية والدينية وما أشبه.
وتندرج الثقافة وفق مفهومها هذا إلى قسمين:
أ – ثقافة تدفع الناس نحو التحرك والانطلاق والسعي الجاد للتغيير والاصلاح.
ب – ثقافة تشد الناس نحو الأرض وتكرس فيهم روح التبعية والخوف والتراجع والخلود إلى الدعة والراحة.
ثانياً: الثقافة الاجتماعية، التي تتخلص في الأعراف والتقاليد التي يبني عليها المجتمع حياته بما يضمن سعادته ورفاهه في ظل قوانين يتمسك بها الجميع من دون وصاية من أحد، وهناك أيضاً نوعان من الثقافة الاجتماعية:
أ – ثقافة تدعو وتحث باتجاه تحكيم القيم والمثل النبيلة كالتعاون والترابط والألفة.
ب – ثقافة تشد الناس نحو السلبية والتفكك والانعزال وزرع روح الهزيمة في النفوس.
ولكي تكون الثقافة عنصراً هاماً وبناء فعّالاً لابدّ من أن تكون متكاملة بمعنى أن تكون ثقافة سياسية واجتماعية للعلاقة الجدلية التي تربطهما، وأن تدفع الناس باتجاه القيم والمناقب السامية وتحرك فيهم روح المسؤولية والعطاء من أجل تغيير الواقع الفاسد والمتردي، واصلاحه، فالاصلاحات الاجتماعية عادة لا تتجذر إلاّ عندما تحركها ثقافة صادقة نشطة.
وعلى ضوء ذلك فإن المثقف الذي يحمل رسالة كالمرآة التي تعكس تفاصيل الامور بسلبياتها وايجابياتها، ولذلك غالباً ما يحدث تعارض بين المثقف والسلطة القائمة التي تعتمد التضليل والتعتيم لوجودها غير المشروع أو الفاسد، ومن هنا تكون الأزمة.
إذ تقوم السلطة بدافع الجشع وحب السيطرة، بتكميم الأفواه، وتكسير الأقلام، وتقييد الحريات، فتتحول الأمور التي ترتبط بأوضاع الناس من سيء إلى أسوأ، لأنها مرهونة بتحمل أبنائه من الواعين وأصحاب الكفاءات مسؤولياتهم، وهذا ليس ممكناً في ظروف القمع والارهاب التي تتميز بها منطقتنا العربية والإسلامية.
وأما الأزمة الثانية، تتلخص في انعدام الحوار، على اعتبار أن احدى أهم مسؤوليات المثقف هي قراءة واقع الأمة والمجتمع ووضع الخطط اللازمة لنقلها إلى حالات التطور والتقدم، ولا يأتي ذلك إلاّ عبر المزيد من المنتديات والحوارات والنقاشات الهادفة بين مختلف الأطراف والتيارات الواعية ومن يمثلها، حيث أن الاستبداد الفكري قرين الاستبداد السياسي، وهما معا من نتائج التخلف، ومن أسبابه معاً، فلا بد من فتح باب (الحوار الفكري) مع الثقافات الأخرى، ولكن ليس بالطريقة الديكتاتورية التي فرضت على شعوبنا (الاغتراب) الذي انتج الاستلاب الفكري والروحي والعقائدي وخلّف الدمار والعجز والتبعية.
الحوار الثقافي مع الجميع وعلى أساس من الشعور بالعزة والاستقلال ـ وإلاّ فإن شعار الحوار يتحول إلى طريق ذي اتجاه واحد كما هو السائد الآن، حيث الغرب يملي، والشرق منبهر كما التلميذ في حضرة الاستاذ القدير.
مع الحوار الثقافي مع الجميع، وبشرط التمسك (بالثوابت الأساسية) التي تميز شخصيتنا وثقافتنا و خصوصيتنا الحضارية.
مع الحوار الثقافي مع الجميع وبشرط أن يتم في جو الحرية المتكافئة، لكي يملك العقل زمام المبادرة ويستطيع الانتقاء والاختيار، وإلا فإن الحوار سيتحول إلى مجرد شعار يُخفي تحته أبشع أنواع الخداع والتغرير.
غير أننا ينبغي أن نسعى لتأمين جوٍ من (الحرية) يمكن من خلالها إقامة حوار ثقافي مفتوح مع شتى التيارات الفكرية الداخلية قبل أن نسعى لإقامة حوار ثقافي مع الآخرين. وأقصد من (الحوار الداخلي) الحوار العربي العربي والإسلامي الإسلامي بشتى التفريعات الفكرية وعلى طول التاريخ الإسلامي. وليست هذه دعوة لإحياء (الصراعات الفكرية القديمة) ولكنه دعوة لفتح باب (الاجتهاد) للجميع ودون شعور بالرعب من سيف التكفير (والعزل) والنفي الثقافي.
بطبيعة الحال، مثل هذه الدعوة تتيح المجال أمام نمو الأفكار الجديدة، كما أن الفكر العربي الإسلامي سيغتني بشكل كبير،ـ ويمتلك القدرة الفائقة على ابلاغ دعوته بصورة أفضل إلى العالم.
ولا خوف على ديننا وثقافتنا لأن الحق لا يخشى الباطل، ولأن الخشية الــــتي تعترينا، والخوف الذي يصيبنا، من جراء فتح كل نوافذ الشرفات الفكرية، سوف يؤدي بنا مستقبلاً إلى إصابتنا بالأمراض المعدية، من جراء تعرضنا لمدة قصيرة لمجرى الرياح، لعدم أخذنا للقاح المناعة الفكرية.
إن هذه الشبابيك المفتوحة هي اللقاح ضد الأمراض الفكرية الفتاكة التي نُكِبَ بها عالمنا العربي، وعالمنا الإسلامي ردحاً من الدهر...
غير أن ثمة مجالاً لحرية الفكر أتاحه الإسلام نفسه لكي يستطيع الإنسان أن يتحرك من خلاله بغية فهم أفضل للإسلام.. وتطبيق أفضل لأغراضه وأهدافه في الحياة، ولكن في ظل هذه الأوضاع واستشراء الخلافات وسيادة روح التنافس السلبي بسبب الأزمات السياسية أو غيرها من الأزمات التي تمر بها الأمة، أدت إلى عزل المثقفين عن بعضهم البعض والثقافة العربية والإسلامية عن غيرها من الثقافات بإنعدام الحوار، الذي يأمل ويرجى منه كل خير، وأصبحت التوجهات في غير اطارها المطلوب، ومن بعض مظاهرها التنابز بالألقاب والنيل من الكرامات والحط من عطاءات الآخرين.
والأزمة الثالثة، هي انعكاس القضايا السياسية، بالذات ما يرتبط بأمن السلطة على الابداعات الفكرية والثقافية، فمحاربة الانتاجات الثقافية والفكرية، تُبقي الأمة في حالة من التراجع والضياع وتجعلها تتشبث بإبداعات وانتاجات التيارات المناوئة لها.
فالكتاب أو المجلة الهادفة في ظل هذه الأجواء، لا يتدارس بحكمة ووعي بسبب الخلافات والأزمات السياسية أياً كان شكلها. فالذي يصدره كاتب من ذلك التيار ولا يقرأه هذا التيار، وكــذلك الكتاب الذي يصدر في دولة معينة لا يدخل إلى دولة ثانية، وهكذا تظل الأفكار في مكانها غير المراد.
فهناك طوق مفروض لدى كل تيار على الأطروحات الفكرية والثقافية والإبداعات والإنتاجات الخيرة التي يمتاز بها الآخرون، لتحل محلها حقيقة ثقافات القرون الوسطى المشحونة بالضغائن والأحقاد والكراهيات.
وليس من شك فإن على الواعين من أبناء الأمة الصمود أمام هذه الأزمات التي تعرقل مسار الأمة نحو نمو حريتها وسيادتها، بروح ايمانية رفيعة تسمو على كل القيم الجاهلية ولتلحق في سماء الأمة بكل خير وصفاء.
والسؤال إذاً: ما هو الواجب والدور الذي ينبغي أن يلعبه أبناء الأمة في ظل هذا التردي والتراجع الذي تعيشه الثقافة الأصيلة على الساحة العربية والإسلامية؟
والجواب على ذلك في عدة نقاط:
أولاً: فك الحصار:
إن التفكير الجاد والعمل الدؤوب لإيصال الثقافة الأصيلة إلى الأمة، كفيل باكتشاف الطرق والأساليب الجيدة والجديدة لمواجهة التحديات القائمة التي تعترض هذا الطريق، وفي التجارب علم مستحدث وليس أسهل وسيلة لفك الحصار المفروض الذي يقيد حرية الرأي والتعامل مع الأفكار سوى اكتشاف المزيد من التكتيكات والممارسات التي من شأنها أن توصل نقاء وصفاء الفكر إلى الأمة.
ولذلك فإننا مطالبون اولاً بتحدي كل العقبات والعراقيل التي تحول دون إيصال الأفكار الواعية ونشرها في الأمة، وذلك بالمزيد من الممارسات الذكية الواعية التي تكشف لنا عن الثغرات الهائلة في خطط الأعداء.
وأما بالنسبة للتيارات الثقافية المتعددة فنحن مطالبون بإيجاد صيغ حكيمة لفتح مجالات للتعامل والتعاون بين مختلف هذه الأطراف، فالأرضية التي يقف عليها الجميع واحدة، وإن اختلفت أساليب العمل، وكما أثبتت التجارب العملية فإن الجميع على استعداد لفتح قنوات الاتصال والتفاهم والتنسيق بشأن العمل الثقافي وما يرتبط به، وكل ما في الأمر هو فقدان عنصر المبادرة وعدم الانفتاح، ولذلك نرى ضرورة اصرار الواعين على فتح قنوات الاتصال مع كافة الأطراف والتيارات العاملة على الساحة حتى يمكن تدوير الثقافة الصالحة بحيث تنتفع الأمة من ايجابياتها العظيمة.
ثانياً: زرع البذور وثورة المعلومات
استدراكاً لواقع الأزمة التي يعيشها كل من المثقف والثقافة نؤكد أن الطوق المفروض قد يحصر فئة معينة وأشخاصاً معينين أو قد يكون يحصر نمطاً معيناً من الممارسات الثقافية وعلى أسلوب معين من العمل الثقافي، ولذلك لا ينبغي الانكفاء هنا، بل تبقى ضرورة المراهنة على خطط وأساليب جديدة، تتم الحركة من خلالها في الساحة.
ومن الخطأ التمحور حول أسلوب محدد من العمل الثقافي، أو يكون جلّ الاهتمام بنمط معين من أنماط نشر الفكر والثقافة السليمة، حقاً إننا نعيش اليوم عصر الذرة وثورة المعلومات وحري بأبناء الأمة، أن يكونوا طلائع هذه النهضة لإيصال كل الحقائق والمفاهيم السامية إلى الجماهير العريضة من أبناء الأمة.
فكم من بذرة أثمرت على بضعٍ من قطرات الأمطار، لم تكلف الإنسان عناء الحرث والسقاء، وكم من شتيلة أحاطها مربيها بعنايته واهتمامه ذبلت ثم تلاشت إلى العدم، وهكذا هي حياة الأفكار، فلنكثر الإبداعات، ولنتحلى بروح العزم والمبادرة حتى تكون لدينا القوة والقدرة الكافية لتحريك الأحداث إلى صالح الرسالة التي نتحملها ونسعى من أجل تحقيقها.
وبذلك وبمقدار التحرك والإصرار الايجابي يمكن الخروج من نفق الأزمة إلى رحاب الحضارة، وهو الأمل الذي يحدونا ونتطلع إليه باستمرار.
د. جاسر علي العناني