كانوا مجرد قراصنة، يصطادون الأفارقة ويتاجرون فيهم، ولما ذاع صيتهم صاروا "نبلاء" وحظوا بـ"احترام" النخبة الغادرة التي كانت بدورها تمارس قرصنة من نوع آخر.
الملوك يعقدون معهم الصفقات، ويمنحونهم ألقاباً عسكرية، ومنازل الفرسان العظام، والأموال تتدفق لهم، ثم التاريخ الزائف لمئات السنين يسميهم مكتشفين!!
جهل بالممرات البحرية جعل كولومبوس يضل الطريق فيصل لأمريكا بدلاً من الهند، وسرقة معلوماتية ينفذها دي جاما، تقوده إلى الهند، ينثر الرعب في قلاعها وشواطئها؛ فيقطع الأوصال، ويرسل أشلاء الصياديين الآمنين إلى قراهم في غرف ومخازن سفنهم، في أقسى مشاهد الإرهاب إرعاباً وقسوة وإجراماً..
جهلوا؛ فلما علموا في النهاية وجدوا أنهم قد وصلوا إلى أراضٍ عامرة، تعرف قبلهم بأكثر من عشرة قرون ما كان "المستكشفون" يجهلونه، ويسلكون الطرق البحرية ذاتها التي "اكتشفها" الرجل الأبيض في نهاية التاريخ، ومع هذا لم يزل الأتباع يلقنوننا في مدارسهم ببلاهة أن هؤلاء إذ يحرقون سفن الحجاج ويذبحون الهنود في قلاعهم وبواخرهم، كانوا يقدمون للبشرية إنجازاً حضارياً ويسجلون "براءات الاكتشافات" لتسجل بأسمائهم، وهم قد استعانوا برواد من البحارة العرب (كابن ماجد الخليجي) وغيرهم على سلوك طرق التجارة المعروفة لأهل الحضارة، المجهولة للغارقين في ظلمات الجهل في قلب أوروبا.
على كل حال، ليست القضية سجالاً علمياً؛ فـ"المكتشفون"، أولى خطواتهم التالية، كانت نصب الكمائن للأفارقة الآمنين، واقتيادهم في سفن قذرة، إلى "أرض المعاد" الغربية (أمريكا)،
في عملية خسيسة وصفها الأديب الإفريقي (الأمريكي) اللامع إليكس هايلي في روايته الحقيقية "جذور" بأنها "كانت رحلة عصيبة، عانى فيها المحبوسون من آلام الأسر ، الجوع ، الرائحة النتنة من قيئهم و(..)، وقرصات قمل الجسد، امتلا كل المحبس بالقمل والبراغيث، والفئران ضخمة الحجم التي كانت تعض الجروح المتقيحة."
وثاني خطواتهم كانت تغيير دين المختطفين بالقسر والإكراه، ولا غرو؛ فـ"مسيحيتهم" الأمريكية انتشرت بالسيف، والقهر، والعبودية،
في ظل نظام جعل من مجرد نظرة العبد للسيد في عينيه جريمة تستحق عقوبة الجلد بعشرة أسواط.. يقول الدكتور عبد العزيز الكحلوت في كتابه القيم "التنصير والاستعمار في إفريقيا السوداء":
"مع حوالي منتصف خامس العشر الميلادي بدأت طلائع البرتغاليين في التجوال على السواحل الإفريقية، وبدأت عمليات قنص الأفارقة من هذه الشواطئ ثم نقلهم إلى أوروبا ليباعوا في أسواقها بعد تعميدهم وتحويلهم إلى المسيحية، ولم يكن دخولهم في المسيحية محرراً لهم من الرق، بل أدخل الأوروبيون في روعهم أن المسيحية تحرر الروح، أما الجسد فيبقى في الرق تكفيراً عن الذنوب والخطايا التي ارتكبها الرجل الأسود...
وتوالى قنص الأفارقة عبر القرون (مسلمين ووثنيين) لدرجة أن سكان إفريقيا لم يزيدوا مطلقاً خلال الفترة من 1650 ـ 1750 إذ ثبت تعداد السكان عند مائة مليون نسمة خلال الفترة المذكورة، وهذا راجع إلى عمليات نزح القارة من سكانها، ونقل هؤلاء السكان وخاصة القادرين (..) إلى الأمريكتين وأستراليا وأوروبا ومناطق أخرى في العالم ليستخدموا فيها كقوة عمل".
ورثت الإمبراطورية الإسبانية أختها البرتغالية، ثم ظهرت الفرنسية كقوة غالبة مع البريطانية بعد أن هزمت الأخيرة الإسبان، ولم تتغير النظرة الفوقية، التي رأت في الإفريقي عبداً منقوص الإرادة والاستقلال.. ومع "اكتشاف" أمريكا، عمد الجميع إلى البلد الجديدة يفرغونها من أهلها الأصليين ويحلون الأفارقة المساكين مكانهم، في أعمال سخرة لم يكن عرف العالم فيها عصر البخار والميكنة ليستغنوا بها عنهم.
الجزر أيضاً من حول أمريكا كانت جاذبة لتلك "الاستكشافات"، وكانت ميداناً للاستزراع والغنيمة، ومن بينها كانت جزر الكاريبي ومنها هاييتي التي اقتاد الفرنسيون إليها مجموعات من المختطفين الأفارقة.
لم يختر الهايتيون وطنهم المزعج، لكن الفرنسيين اختاروه لهم، ولم يعمد أحد من هؤلاء في الغرب الإفريقي الآمن إلى حزام الزلازل ليرسي عنده مركبه، ويضرب فيه خيمته أو يصنع فوقه كوخه، بل اختار الرجل الأبيض لهم كل هذا..
أمرهم أن يقتلعوا الأشجار ويغيروا من طبيعتها المناخية، ما تسبب في كوارث متلاحقة للجزيرة،
تقول ليزا ميلر في مقالها بمجلة نيوزويك (26/1/2010): "إذ تم قطع 98 بالمائة من أشجار غاباتها وحرقها كخشب للوقود، فإن هايتي باتت معرضة بصورة فريدة للفيضانات التي تتسبب بها الأعاصير.
وفي عام 2008 أدت أربعة من هذه الأعاصير التي ضربت الجزيرة في أربعة أسابيع إلى تشريد مليون من سكانها".
لقد نفذوا جريمتهم واستفادوا من جهود الأجداد؛ فلما اخترعوا الآلات البخارية، واستعاضوا بها عن الأيدي العاملة لم تصحُ ضمائرهم لإنقاذ الأحفاد الفقراء الأشقياء؛ فتركوهم يلقون مصيراً مفعماً بالبؤس والضياع، تضيف ميلر:
"لدى هايتي معدل وفيات بين الأطفال الرضع يفوق ذاك الذي تعانيه الكثير من الدول الأفريقية، كما أن سكانها مبتلون بالتعرض للإصابة بالأمراض: فأمراض الإسهال والتهاب الكبد وحمى التيفوئيد وحمى الضنك والملاريا وداء اللولبية النحيفة هي أمراض شائعة الانتشار في هذه الدولة."
.. لم إذن كل هذا؟! يقول نائب مساعد وزير التجارة الأمريكي لشؤون التجارة الدولية خلال إدارة كلنتون، والباحث الزائر في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي ديفيد روثكوف: "لقد أرغمت الظروف المجتمعات الضعيفة للشعوب الأكثر هشاشة في العالم على الاستقرار في أراض غادرة، قرب الشواطئ تحت أو قرب مستوى البحر، وعلى سفوح الجبال، وفي مدن تقع على خطوط التصدعات. كما في حالة هايتي، حذر العلماء من المخاطر المحدقة".
لا، لم يكن الأمر كذلك، روثكوف، لقد أرغم أجدادك ـ لا الظروف ـ أجداد هؤلاء على المجيء إلى هنا للسخرة، ثم تلقي الضربات من الأعاصير والزلازل، وفاقم الكوارث سياسة براجماتية بغيضة في تعاملكم البيئي مع الجزيرة الكاريبية.
دفن الهايتيون الأفارقة ضحاياهم الذين يجاوزون 150 ألفاً، وهم يقتتلون على لقمة خبز، غمسها ثلاثة رؤساء أمريكيون في طبق المنة والتعالي، وعدوهم وهم يبتسمون بالخبز فأرسلوا لهم الجنود بالسياط مجدداً، ولا نعلم، لعل لهم غرضاً آخر هذه المرة يختلف عن سياط الأجداد، لكن الجامع بين الاثنين واحد، وهو أنه طالما بقي لدى الأفارقة المختطفين منفعة حضر الرجل الأبيض، وإلا كانت "الثورة"، ومُنِح العبيد "الاستقلال"، ليتركوا وحدهم ينفقون من أموالهم واستقرارهم وأعمارهم تبعاته.. أوليس الله العلي قد قال: { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } ؟ بلى، لقد أفسدوا جيئة وروحة، وأهلكوا الاثنين معاً، وكانت حسنتهم الوحيدة أن فتحوا أعيننا على الحقيقة فأدركنا كم خسر العالم حقيقة كثيراً بتراجعنا وتسيد القراصنة..